من بلدة المحيدثة – بكفيا، خرجت الجنازة الأخيرة للفنان والمبدع زياد الرحباني، محمولة على بساطة حضوره، وعابرة لانقسامات السياسة والطوائف، كما عاش، وكما أراده جمهوره.
الوداع كان بمثابة مشهد جامع يعكس هوية وطن يبحث عن ذاته. فقد حضر الرسميون والفنانون والمثقفون، إلى جانب الناس العاديين، في مشهد تآلف نادر، عبّر عن احتضان شعبي وفني وثقافي استثنائي. بدا وكأن لبنان بأسره جاء ليقول: “هذا ابننا”.
فيروز… الصمت الأبلغ
في مقدمة الحاضرين، كانت السيدة فيروز، شامخة في صمتها، حزينة بعينين متعبتين، واقفة قرب نعش نجلها وكأنها ترتّل في داخلها نشيدًا لا يُقال. لم تنطق، ولم تنهر، لكنها نقلت مشاعر الفقد بصمت مهيب، وكأن صوتها المعروف لم يكن بحاجة إلى كلمات.
هالة فيروز، المتشحة بالسواد، غطّت المكان بهيبتها. عيناها كانتا كافيتين لنقل وجعها، فيما وقفت إلى جانبها ابنتها ريما الرحباني، تمسك بيدها وتراقب خطواتها كمن يقول: “نستمد قوتنا منك”.
رمزية وداع
لم تكن الأنظار موجهة نحو النعش فحسب، بل نحو الأم التي صمدت بجواره، نحو الحضور الذي شكّل لحظة نادرة من الإجماع الوطني والوجداني. حتى الفن بدا عاجزًا عن مواكبة اللحظة.
وعند وصول الفنانة ماجدة الرومي، انحنت أمام فيروز في لقطة طغى عليها مشهد الوفاء الصامت. ألقت حقيبتها جانبًا، وركعت لتقبّل يدها، قائلة لاحقًا: “فيروز هي الأم الحزينة اليوم… أمامها يسكت الكلام”.
تقدير رسمي
الجنازة لم تخلُ من الحضور الرسمي، حيث شارك ممثلون عن رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب. وقد مُنح زياد الرحباني وسام الاستحقاق اللبناني الفضي ذو السعف، كتحية رمزية لمسيرته الفنية والفكرية، التي تجاوزت حدود الفن، لتصبح مرآة تعكس نبض الناس والبلد. الوسام الذي وُضع على نعشه بدا، في نظر كثيرين، اعتذارًا متأخرًا من الدولة، و”شكرًا” مستحقًا.
فنان استثنائي
الفنان غسان صليبا، الذي رافق العائلة الرحبانية فنيًا لسنوات، وصف رحيل زياد بأنه “خسارة للضمير الحي والنفس المختلف”. وقال:
“لم نفقد فقط فنانًا، بل خسرنا ذاكرة حيّة، وصوتًا ساخرًا وجريئًا لا يشبه أحدًا. زياد كان ثورة في اللحن، وتمرّدًا في الكلمة، وعقلًا ناقدًا في وجه الزيف”.
أما الفنانة كارمن لبّس، فتحدثت بمرارة الشريكة التي احتفظت بندوب الحب والذكريات. تأثرت عند سماع أغنية “بلا ولا شي”، التي كتبها زياد لها ذات يوم، واختصرت حزنها بعبارة:
“فكّرت بكل شي… إلا إنو الناس يعزوني فيك. راح ضلني حبك… بلا ولا شي”.
وداع وطن
الجنازة لم تكن مجرد مراسم توديع لفنان، بل لحظة وطنية حملت رمزية كبيرة. غابت الخطب السياسية، وحضرت الأغاني القديمة التي كتبها ولحّنها الراحل. الأغاني قالت كل ما عجزت عنه الكلمات، كأن زياد أراد أن يكون الوداع صادقًا كما كان فنه: وطنًا يُغنى، وصمتًا يُفهم.
ومن بين الحشود، صدح صوت امرأة عند مرور النعش: “هيدا ابننا”. جملة تلقائية، خرجت من القلب، اختزلت ما عجز عنه الجميع. فزياد كان في وجدان اللبنانيين أكثر من فنان؛ كان ابنًا، رفيقًا، صوتًا يشبههم حين لا يجدون الكلمات.
الوداع الأخير
زياد الرحباني، الذي أحب لبنان وعاتبه كثيرًا، وُوري الثرى في أرضه. لم تبكِه فيروز وحدها، بل بكت بيروت، والضيع، والمسارح، والصالات، وجمهور تربّى على صراحته وموسيقاه الناقدة.
رحل زياد، لكن في حضرة أمه وشقيقته ومحبيه، بدا وكأنه ما زال حيًا… كأنه أغنية بدأت ولم تنتهِ.